الخميس، 18 ديسمبر 2008

نصارى مصر الأرثوذكس .. جيتو الكنيسة بديل لحضن الوطن .. !!

ليس هناك خطأ أفْدَح من قيام جماعة أو طائفة باستغلال ظروف سياسية أو اقتصادية مُعَيَّنة كي تنتزع لنفسها حقوقًا وامتيازات تتجاوز وزنها النسبي في المجتمع، وربما لا يفوق هذا الخطأ فداحة إلا تجاوب أي نظام حاكم مع تلك الضغوط بهدف الانحناء أمام العاصفة أو للحصول على مكاسب تتعلّق بمصلحة النظام نفسه وضمان بقائه بالحكم، وخطورة هذا الأمر تَكْمُن في أنه يزرع “بذور فتنة” قد تأكل الأخضر واليابس، ويفاقم الاحتقان بين أبناء الوطن الواحد، فصيغة العيش المشترك تصبح على شَفَا بركان عندما ينتشي فريق داخل الوطن بشعور المنتصر فيما يتجرَّع فريق آخر مرارة الهزيمة.ومن يستعرض شريط الأحداث في مصر خلال الأشهر الأخيرة يشعر بأن ما يسميه البعض بـ”الملف القبطي” قد دخل مرحلة خطيرة من التصعيد والاحتقان، فالكنيسة باتت تفضل التعامل مع الدولة خارج الأُطُر القانونية والشرعية الرسمية، وذلك بعدما أثبتت لغةُ التهديد والتَّحدِّي والتلويح بالنزول للشارع واستعداء الخارج فعاليتَها في أكثر من موقف وأزمة.
تراجع الدولة وفشل النخبةبدورها مالت الدولة إلى التراجع مرارًا أمام تهديدات الكنيسة تارة كي تُجَنِّب نفسها الضجيج الذي يُحْدِثه “نصارى المهجر”، وتارة أخرى لمكافأة الكنيسة على دَعْمِها القوي للنظام في المَحَكَّات الأساسية التي خاضها. وما بين ضغوط الكنيسة وتراجع الدولة فإن النخب المثقفة والفاعلة أظهرت عجزًا كبيرًا في التعامل مع هذا الملف؛ فلا هي تَبَنَّت ما قد يكون منطقيًا وعادلاً في مطالب النصارى وبذلك تُخْرِجُه من قَوْقَعَتِه الطائفية لتضعه في سياقه المجتمعي الطبيعي، كما أنها افتقدت الشجاعة في كشف الغلو والشطط الذي تلبس بعض النخب النصرانية، بخاصة داخل الكنيسة، وهو ما كان سيسهل على الدولة إعادة الأمور لمجراها الطبيعي، ويحرم المتربصين من التلويح بورقة الاضطهاد والطائفية التي تطرب لها آذان الخارج.ومع أن معظم حوادث الاحتقان الخاصة بالنصارى كانت تبدأ في الشارع، سواء على خلفية احتكاكٍ عادي بين مواطنين مسلمين ونصرانيين بحكم الاحتكاك اليومي العادي أو بسبب اعتناق فتاة نصرانية للإسلام، ثم تنتقل شرارة الأحداث إلى الكنيسة، التي منحت نفسها دور الوكيل الذي يَتفاوَض مع الدولة نيابة عن النصارى، إلا أن هذا النمط من الحوادث أخذ في التراجع في السنوات الأخيرة لصالح أزمات تنطلق شرارتها من داخل الكنيسة، التي تقوم بنقلها إلى “الشارع النصراني” بهدف حَشْده في مواجهة “الدولة”، كما يتمّ تصدير هذه الأزمات إلى الخارج لمضاعفة الضغط على الحكومة.ويتجلى هذا النمط في الأزمات المتكرّرة التي أثارتها الكنيسة بسبب رغبتها في وضع يدها على مساحات شاسعة من الأراضي المتاخمة للأديرة المنتشرة في مختلف أنحاء البلاد، وهو ما أدخلها في نزاعات وصدامات تارة مع أجهزة الدولة، على غرار أزمة دير الأنبا أنطونيوس بمحافظة البحر الأحمر والأزمة الحالية الخاصة بدير العذراء في أسيوط، وتارة أخرى مع مواطنين ينازعونها السيطرة على تلك الأرض، كما هو الحال في أزمة دير أبو فانا بمحافظة المنيا.
شطط الرهبانومن المفارقة أن هذه الأزمات، والتي شكّل رهبانُ الأدْيِرَة طرفها الرئيس، كانت أشد عنفًا من الأزمات التي كانت تنشب في الغالب عقب شجار أو احتكاك بين مواطنين عاديين، مع أن طبيعة الرهبنة يفترض أن تجعلهم أميلَ إلى الموادعة والمساكنة وتجنُّب الصِّدام، فمن ترك الدنيا ومتاعها طواعية وعن طيب خاطر يفترض به ألا يُلَوِّث خلوته بمثل هذه الصراعات.ولتفسير هذه المفارقة يتطلب الأمر الرجوع بالذاكرة إلى الفترة التي اعتلى فيها البابا شنودة الثالث كرسي البطريركية قبل نحو ثلاثة عقود، حيث سعى لاجتذاب الشباب المُثَقَّف إلى سلك الرهبنة بعدما كان الأمر يقتصر على عدد محدود من أبناء الطبقات الفقيرة، وبالفعل انخرط العشرات من خريجي كليات الطب والصيدلة والهندسة في مدارس الرهبنة، وتزامن هذا مع تركيز البابا شنودة على إعادة الحياة لعشرات الأديرة المهجورة، حيث نجح في مضاعفة عدد الأديرة، ليصل إلى حوالي ثلاثين ديرًا بطول البلاد وعرضها، علاوة على زيادة أعداد الرهبان وكذلك الراهبات، ليتجاوز حاليًا الألف راهب وراهبة. كما تحوّلت هذه الأديرة من مجرد أطلال مهدمة ومبانٍ بدائية، تتناسب مع زُهْد الرهبان المفترض، لتصبح “قلاعًا صناعية وزراعية”، على حدّ قول القمص متى ساويرس أو “فنادق خمس نجوم” كما يؤكد المفكر النصراني كمال غبريال.وإذا كان الأطباء والمهندسون، بحماسهم وتفوقهم وطموحهم المفترض، قد تحوّلوا إلى رهبان، والأديرة ببساطتها وزُهْدها قد أصبحت “قلاعًا صناعيةً زراعيةً”، فإن الصراع على الأراضي والرغبة في السيطرة على المزيد منها يصبح أمرًا طبيعيًّا؛ لأنها تعني المزيد من الثروة والنفوذ، كما أن تشدّد الرهبان يمكن فهمه في ضوء تَشَبُّعِهم بأفكار سلبية عن الدولة واضطهادها للنصارى، بل إن هذه الأفكار ربما كانت الدافع الرئيس وراء اختيارهم للعُزْلَة والرهبنة رغم تَفوُّقهم التعليمي والمهني.
دولة موازيةوإذا كان إحياء الرهبنة وتدعيمها بالعشرات من الشبان المتفوقين قد مكن البابا شنودة من إجراء إعادة هيكلة واسعة للتركيبة البشرية والفكرية لرجال الكنيسة؛ حيث بات الأساقفة المسيسون هم أصحاب الكِفَّة الراجحة داخل المجمع المقدس للكنيسة فيما توارى الأساقفة التقليديون ممن يفضلون التفرُّغ للعبادة والروحانيات وترك الدنيا وشئونها للدولة وأجهزتها أو للمجلس الملي، الذي يمثل الذراع المدني للكنيسة، فإن توسع الكنيسة في إنشاء المؤسسات الخدمية، من مستشفيات ومدارس وجمعيات خيرية ومشروعات صغيرة، جعل الكنيسة تحلّ محلّ الدولة في لعب هذا الدور، وهو ما فاقم الشعور بالعُزْلة لدى بعض القطاعات النصرانية، كما أن الكنيسة أصبحت هي الملجأ والملاذ عقب أي حادث يشعر فيه النصارى بالظلم، علاوةً على سَعْيِها للعب دور الوكيل الذي يتولى التفاوض مع الدولة نيابةً عن النصارى.ومع أن مصر شهدت ظهورًا مكثفًا في السنوات الأخيرة للمجمعات الخدمية الملحقة بالمساجد، إلا أنَّ هذا الأمر جاء في سياق علاج عجز الدولة عن أداء دورها المفترض في هذا الجانب، وليس للعب دور البديل أو الكيان الموازي للدولة، كما أنه لم يتم تحميل هذا الدور أي أبعاد سياسية. ومن اللافت أن الاحتجاج على “تَغَوُّل” دور الكنيسة في الشأن الدنيوي لم يأتِ من الدولة أو المسلمين، وإنما تزعم ذلك قطاعات من النخبة النصرانية المثقفة، والتي رأت في ذلك مصادرةً لدورها، وخلطًا لا تَقْبَلُه تعاليم الإنجيل بين روحانية الكنيسة ودنيوية الشأن اليومي للنصارى، وفطنت تلك النخب- كذلك- إلى أن تقَوْقُع النصارى خلف أسوار الكنيسة سيؤدي إلى انعزالهم عن المجتمع، ما يهدَّد صيغة العيش المشترك الفريدة التي نسجها نصارى مصر ومسلموها عبر مئات السنين.
خيار العُزْلةويذهب تقرير لـ”نيك ماير” في صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية إلى أن النصارى اختاروا العُزْلة، وأن سياسة البابا شنودة منذ تَوَلِّيه كرسي البابوية قبل أكثر من 36 عامًا لعبت دورًا أساسيًا في لجوء النصارى لهذا الخيار، حيث عمل على تقوية وجود ودور الكنيسة في حياة النصارى، لتصبح مركز النشاط اليومي لهم والأساس الأوحد لعمل النصارى.ويشير التقرير إلى أن البابا شنودة اعتمد في ذلك على عِدّة أدوات، أبرزها مدارس الأحد التي أنشأها داخل الكنيسة، فضلاً عن اتجاه الكنائس في عهده إلى بناء مؤسساتها الخاصة بها، الأمر الذي جعل النصارى يعتمدون على الكنيسة في جميع مناحي حياتهم الخاصة بداية من الشعائر الدينية والتعليم مرورًا بالتربية، وحتى ممارسة الرياضة الخاصة بهم. كما أن البابا شنودة عمل على زيادة دوره ووجوده باعتباره الوسيط الوحيد بين النصارى من جهة وبين مصر ككلّ من جهة أخرى.
تناقض مُحَيِّرومن التناقضات المُحَيِّرة، التي أثارها انخراط الكنيسة في الشأن السياسي، تلك الازدواجية التي تتعامل بها مع النظام، فهي تتهمه بتجاهُل النصارى واستبعادهم من العديد من الوظائف والمناصب، بينما لا تتردّد في إعلان دعمها ومبايعتها للنظام وحزبه الحاكم في أي مَحَكّ انتخابي أو سياسي، حيث تصدر التعليمات من الأساقفة والقساوسة للنصارى في مختلف أنحاء البلاد بالتصويت للحزب الوطني ومرشحيه، بل إن الكنيسة لا تخفي دعمها لتولي جمال مبارك النَّجْل الأصغر للرئيس المصري للحكم خلفًا لوالده، ويبدو هذا جليًّا في الاحتفاء الاستثنائي الذي تحظى به مشاركته في احتفالات الكنيسة.ويفسر البعض هذا التناقُض بأن الكنيسة تتبع سياسة “العصا والجزرة” وتحاول الحفاظ على بقاء “حبل المودة” ممدودًا مع النظام سعيًا وراء انتزاع أكبر قدرٍ ممكن من المكاسب دون أن تتخلّى عن لائحة مطالبها المعلنة، وبذات الصيغة تدير الكنيسة علاقتها مع نصارى المهجر، فهي لا تَتَبَنَّى مواقفهم وتحرص على الاحتفاظ لنفسها بمسافة فاصلة، إلا أنها أيضًا لا ترفع عنهم الغطاء بالكامل.وإلى جانب هذه التناقضات، فإن دور “الدولة الموازية” قاد الكنيسة بالضرورة إلى الصدام مع مؤسسات الدولة، وهو ما تجلّى في أزمة طلاق النصارى؛ فالكنيسة أرادت فرض تفسيرها الخاصّ لأحكام الإنجيل فيما يتعلّق بالطلاق والزواج الثاني، وهو ما تصادم مع التفسير القانوني الوارد في لائحة الأحوال الشخصية للنصارى، وعندما رفض بعض النصارى تفسير الكنيسة ولجئوا إلى القضاء ليحكم بينهم، وبالفعل حكم القضاء لصالحهم، فإن الكنيسة رفضت النزول على حكم القضاء بدعوى أنه لا توجد قوة يمكن أن تجبرها على مخالفة أحكام الإنجيل، وكالمعتاد فإن الدولة هي التي تراجعت، وقامت بتغيير اللائحة لتتناسب مع تفسير الكنيسة.
أزمات متكررةوقد تكرر هذا الأمر مرّة أخرى خلال أحداث دير أبو فانا؛ حيث رفضت الكنيسة الالتزام بقرار اللجنة التي شكلها محافظ المنيا لترسيم حدود الدير، والتي تبلغ 600 فدان، وأعلن أسقف الدير مقاطعة كاملة للمحافظ، كما اشترط البابا شنودة معاقبة المتهمين بالاعتداء على رُهْبان الدير والإفراج عن النصارى المتهمين بقتل الضحية المسلم الذي سقط خلال الأحداث قبل الحديث عن ترسيم حدود الدير.وقريبًا من هذا السيناريو تلوح أزمة جديدة في محافظة أسيوط حيث قرّر أسقف دير السيدة العذراء إلغاء الاحتفالات السنوية للدير بعدما رفض المحافظ منح الدير 13 فدانًا من أراضي الدولة المتاخمة للدير لبناء بانوراما، حيث عرض المحافظ بناء البانوراما على نفقة الدولة لتصبح ملكًا للشعب كله وليس لفريق دون آخر. كما طالب الدير بالحصول على ترخيص لإقامة مخبز للخبز المدعوم من الدولة، وهو ما رفضه المحافظ حتى لا يصبح هناك “رغيف خبز طائفي”.وفي المحصلة، فإن هذه الأزمات المتكررة، والتي تشهد تصعيدًا في نبرة الغضب النصراني، في مقابل غموض وتراجع في موقف الدول، تهدّد بأن يتَفَلَّت الأمرُ من يد الدولة وسلطاتها، ليصبح لكل فرد أو جماعة قانونه الخاص الذي يناسب مصالحه، كما أن افتقاد الدولة- وحتى المجتمع بأكمله- لمرجعية حاكمة يتم الرجوع إليها لحل تلك الأزمات، يمنح الخارج نافذةً واسعة للتدخُل في الشأن الداخلي للبلاد، كما أنه يُقَوِّي موقف الداعين لعُزلة النصارى خلف أسوار الكنيسة، ليصبح “جيتو الكنيسة” بديلاً عن “حضن الوطن”.
المصريون : 19/7/2008م
من مدونة : صـَـــيـْــدُ الخـَــوَاطـِـرِ .. وَلـَحـْـظـُ النـَّــوَاظـِـرِ .. !!
الشَّـــــيْـــــخُ / مَـــحْــــمــُــودُ الحـَـسـَّـانـِيُّ المـَالـِكِيُّ الأَزْهـَــــرِيُّ

ليست هناك تعليقات: