الجمعة، 30 يناير 2009

شهادة هند رستم وشهادة مأمون عجمية

بقلم   أسامة غريب    ٢٤/ ٥/ ٢٠٠٧

أتابع بإعجاب ما يكتبه الأستاذ أحمد المسلماني من خلال حواراته لتدشين حركة المؤرخين الجدد، وتدهشني اختياراته لشخصيات قريبة من قلب الجمهور المصري، وتتسم في الوقت ذاته بالتلقائية والبعد عن التقعر أو ادعاء ما لا يعتقدون.. هذا بصرف النظر عن رأيي في شهاداتهم.

في الوقت نفسه تحظي هذه الشهادات بمتابعة دقيقة من رجل حرفته الأساسية هي التاريخ، ونكبته أيضا جلبها له هوسه بالتاريخ، ذلك هو الأستاذ مأمون عجمية مدرس التاريخ السابق، وقد صار الرجل سابقاً بعد أن دأب علي تنحية منهج الوزارة جانباً وتدريس ما يحلو له علي غير ما يذكر الكتاب المدرسي، الأمر الذي دفع بالوزارة إلي فصله نهائياً.

أخبرني الأستاذ مأمون أنه علّم تلاميذه أن التاريخ هو الحكايات الكاذبة المسلية التي تجعل أسافل الناس أبطالاً من خلال التواطؤ علي إخفاء الحقيقة من جانب أعوان المجرم، في ظل صمت الشهود الحقيقيين وكتمانهم للشهادة، وقال لي إن أحداً لا يمكنه أبداً أن يعرف حقيقة ما جري في أي عصر من العصور، حتي الأحداث التي تقع أمامنا ونحن علي القهوة جلوس، سوف تتعدد الروايات بشأنها ولن يبقي منها سوي رواية أشدنا بأساً وأوسعنا نفوذاً،

وبناء علي هذا التصور أخذ الأستاذ مأمون يروي للأولاد في حصة التاريخ عن أخبار دولة المماليك الجوية التي حكمت مصر في العصر الحديث تمييزاً لها عن دولة المماليك البحرية التي عرفت سلاطين عظاماً خاضوا أعظم المعارك مثل السلطان «وحشُمُرالبندقداري» صاحب الضربة البحرية الذي انتصر علي السلطان «البيكيكي» وأغرق أسطوله في موقعة «متشخرمين».. هذا وقد حاول مفتش المادة أن يفهم من الأستاذ عجمية أين قرأ عن موقعة متشخرمين هذه، وأي المراجع استند إليها..فلم يصل إلي شيء، مما عجل بقرار الرفت والجلوس الأبدي علي القهوة.

ولهذا كانت سعادته بالغة عندما بدأ يقرأ شهادات أناس بعيدين عن منهج الوزارة عما حدث في مصر خلال الخمسين سنة الماضية، وقد أسّر لي بعد قراءته لشهادة السيدة فاتن حمامة والسيدة هند رستم أنه سعيد بما قرأه لأنهما خرجتا علي الكتاب وأدليتا برأيهما الحقيقي (رغم اختلافه التام مع مجمل شهادتيهما)،

 لكن نبرة حزينة تبدت في صوته وهو يقول: هند رستم ابنة باشوات كانت تذهب إلي العزبة وتستمتع بفرحة الفلاحين لظهور الباشوات بطلعتهم البهية، وفاتن حمامة ابنة بكوات يتبرؤون من مصر عند الهزيمة ويدّعون أنهم أتراك، سألته وما الذي يحزنك إلي هذه الدرجة فقال لي بحدة: يعني ماحدّش أمه غسّالة غيري؟!

 قلت له :بلي هم كُثر ولكن لا يعترفون.. و لمن لا يعرف الأستاذ مأمون، هو أحد أبناء ثورة يوليو المخلصين الذين استفادوا من أهم إنجازاتها وهو إشاعة التعليم علي نطاق واسع وإتاحته بالمجان، الأمر الذي مكنه من الالتحاق بالجامعة والحصول علي ليسانس التاريخ، وقد ظل علي ولائه للثورة ولم ينتقص من هذا الولاء إدراكه أن بعض رجالها كانت لهم أهداف أخري علاوة علي الأهداف الست المعلنة.. من بينها الحصول علي شاليهات المنتزه، وشقق في عمارات الإيموبيليا ويعقوبيان وإستراند، والاستيلاء علي نساء الطبقة الراقية،

كما أن بعض الثوار تفرغ للحصول علي نصيبه من الراقصات والمغنيات، وإذا كانت السيدة هند رستم تنفي أن أحداً قد حاول استغلال الفنانين علي نحو سيئ، كما ورد في مذكرات البعض، فإن الأستاذ عجمية يري أن الثورة التي كرمت الفن والفنانين، قد أوغل بعض رجالها في التكريم إلي درجة أن الفنان محمد عبدالوهاب الذي مدح الحكام من أول السلطان حسين كامل حتي الرئيس مبارك كان يغني في منزل أحد الثوار وفرائصه ترتعد من الخوف!.

كل هذا غفره لهم قياساً بالإنجازات التي تحققت والتحديات التي واجهتها الثورة في الداخل و الخارج، لكن ما لم يغفره أبداً هو رحلة صعود الواد «شولح» الذي كان زميلاً له بالمدرسة و كانت أمه الست مُحبات تبيع نبوت الغفير علي باب المدرسة، ولأنه كان متوسط المستوي فلم يستطع سوي الالتحاق بكلية الشرطة أيام أن كانت تقبل أبناء المصريين! ـ علي حد قوله ـ تخرج شولح وصار ضابطاً،

ولكنه لم يستطع أن يشعر بالسيادة إلا علي حساب الفقراء من أمثاله، وماتت الست محبات وهي تدعو علي البطن التي أنجبت جاحداً مثله، ثم ترقي شولح وصار محافظاً فجعلت الناس تتحسر علي أيام السلطان «بشاميل»، حيث كانت السرقة بالمعقول!.

مشكلة الأستاذ مأمون الوجودية الحارقة هي: أيهما أشد فتكاً بالمصريين.. حكم الباشوات ذوي الأصول الأرستوقراطية الذين لا يعرفون عن مصر سوي أنها منجم للعمالة والخدم بأجر بخس، أولئك الذين تري السيدة هند رستم أنهم كانوا محبوبين من أقنان الأرض.. أم حكم المصريين أبناء من كان يسرح بقرد، ومن كان يبيع أم الخلول فلما أوصلته تضحيات المصريين لأعلي السلم ركل السلم بقدمه ليمنع صعود غيره وصار أشد غلظة علي أهله من الأعداء..

والدليل أن كل الذين يعادون مجانية التعليم اليوم هم الذين تعلموا حتي الدكتوراه من كندا وأمريكا علي حساب فقراء المصريين، وهم أمثال شولح زميل الأستاذ مأمون الذي عصف بما تبقي للرجل من عقل وجعله يدرك أن كل تضحيات مصر بلا مرجوع!

http://www.almasry-alyoum.com/article2.aspx?ArticleID=61923


ليست هناك تعليقات: